الثلاثاء، 21 يوليو 2009

بلاسم محمد...مباهج الرسم.. امام مثول الذاكرة الفردية




بلاسم محمد...مباهج الرسم.. امام مثول الذاكرة الفردية

حسن عبد الحميد

لا يمكن تحت طائل أي إغراء عاطفي أو تلميح قصدي يمد النظر باتجاه تقييم خلاصات تجربة "بلاسم محمد" في الرسم, التفريط باهمية اعتمادها منهجاً جمالياً- نقدياً, يحمل أكثر من منحنى وعمق وبعد وإجراء، تحادده جملة من قناعات ومعارف واستنارات ذهنية وحسية فضلاً عن تلك الالتماعات الفكرية المنهجية التي جعلت من نواتج ما توصل إليه- ولعل آخرها معرضه الشخصي في العاصمة الأردنية عمان نهاية 2008- الاعتراف بيقين مقدرات وأدوات الرسم وإتقان معادلاتها إلى جانب الانحياز للتجريب وتعبيد طريق الحداثة نحو تلك العوالم والمناخات والأجواء المتوالدة ما بين محتويات الخيال كعنصر يضخ من مناجمه حالات وتداعيات واسترجاعات فائقة الاعتماد امام محتويات الذاكرة الفردية, كونها الأقوى والاثرى في الحفاظ على ارث الوعي واللاوعي بحاصل جمع تلك الفائدة وذلك الانفتاح المرهون بتطلعات وخبرات عديدة أطرت عموم تجربة هذا الفنان في مجال التشكيل.

إن ما يلزم فعل ومحتوى الذاكرة الفردية إنها تحفظ بشكل أدق وأقوى تراث وعيها, الذي هو ارث البشرية وخلاصات انجازاتها الحضارية وبالتالي, هي أكثر اعتماداً ورهاناًَ من الذاكرة الجمعية وحاصل سعيها بالانجازات وتراكمها النوعي, ليس لأن الفرد هو مركز الكون, وإنما لجملة أخرى من عوامل وتنويعات مضافة زادت من مفهوم لغة السيادة لذلك النوع النادر والقليل جداً من المحرضين الإبداعيين في كافة مجالات المشاركة والتعبير بغية توسيع الأفق الحضاري ومديات التطور الانساني في مضامير الفن.

ما يجمل –ايضاً- خلاصات ما توصلت إليه تجربة "بلاسم محمد" في الرسم إنها رسمت خطوط التواصل ما بين التشخيص المحاذي لمحاولات الحذف, لنعيد اذن القول بعلاقة ميزت سمات الفن الحديث تفيد بأهمية الحذف في بناء علاقات اللوحة على حساب التشخيص المحض الذي ظل واقفاً في مكان الفعل والأداء وليس على ضفاف التأويل وقدرة التماهي مع مكونات تلك العلاقات التي تزدهر بها عناصر الفن الحديث، وهي تعيد الاعتبار لمهام الرسم وتنويعاته الإجرائية متداخلاً مع إتقان مهارة الخط الذي ابتدأ به بلاسم حياته الفنية قبل دخوله عالم التصميم والإخراج الصحفي بمصاحبة الدراسة الأكاديمية الأولية والعليا في مجال تخصصه، منها فضلاً عن تقانة ميوله الگرافيكية (الطباعة) وباقي مكملات أدوات التعبير التي جاءت بهذا الانفتاح الحر والتفكير الإجرائي والنهل من محتوى ذاكرته الفردية المتمرسة على إعادة صناعة المعاني والأفكار والأخيلة لصالح وعي إبداعي عام كان ولم يزل يرى في العالم وحدات كاملة من رموز وإشارات توصل إلى معانٍ ودلائل تستدعي مقومات تلك الخبرة المرتبطة بنواحي الجرأة التي في محلها,, وليس تلك الخاضعة لمحاولات الخطأ والصواب، هكذا دون التماس فكري لمعنى صناعة اللحظة ومساعي تخليدها في متحف الذاكرة.

يتماثل وعي التجسيد مدفوعاً بقدرة فائقة على استثمار كل مسامة من مسامات اللوحة (بلاسم محمد) وهي تقص علينا تنويعات أحلام تتراوح حدتها الرومانسية التعبيرية وما بين يقظة حالمة هي الأخرى وما بين تداعي يأخذ بالمشاهدة نحو عوالم وأماكن تفرض هيبة واضحة لسطوة الفراغ الذي يمارس فيه الفنان لعبة التماهي ما بين كل تلك المقتربات الرمزية والتجسيدية بتعبير خاص وصولاً إلى إبلاغ جمالي يشحذ ذهن المشاهدة المتخصص والعادي معاً. دون أن يفرط بخصوصية فعله ومؤهلاته العلمية والأكاديمية.. سعى بلاسم أيضا إلى حيازة الحلم في واحدة من أوجه التعبير النفسي كنشاط إنساني يسمح بدخول هذه الاشتراطات الممهدة لخوض ما يريد إنشاده باللون والخط والفراغ بكل حرية وتمرد محسوب يعي معنى الافتراض القائم – كما قلنا- بضرورات الحذف التي يمارسها وبفرض وبسط الفراغ الذي يعطي انفتاحاً أخر ويتيح قدرة اكبر للتنامي مع ما تحمله اللوحة وأفقٌ أوسع للتأويل,, وتلك خواص ومسلمات لدواعي الاهتمام بالرسم كفن قديم- جديد لم يزل يراهن على إنسانية الإنسان دون أن يتنازل عن دفقات الحث والتجريب والتباري مع الذات ودفعها نحو مسالك الفعل الإبداعي القادر على الوصول نحو نواتج وخلاصات كما لو إنها لا تنتمي للمرتبة أو الدرجة الذي أخذت منها اصلاً.

وفي عودة إلى تجربة (بلاسم محمد) وما توصل إليه يلزمنا الاعتراف بقدرة تحمله كل هذه السنوات أكثر من ثلاثين عاماً متابعاً, مراقباً بنقد وانتباه لعدد كبير من التجارب العالمية والعربية والعراقية في مهاد الوعي والمنجز التشكيلي, قبل أن يرمي بسهم انطلاقاته الأولى في أروقة ذلك العرض المبهر في أخر معارضه عمان/2008 ومن ثم توالي هذا الانشراح الذهني والنفسي في محافل الرسم.. الرسم بمعناه الروحي العميق.. بمعناه الإجرائي.. بمعناه القصدي مشفوعاً بصلاحية توافر الموهبة الحقة.. الرسم بما يجب عليه أن يكون.. لا بما هو واجب ومطروح في الكثير من التجارب التشكيلية –عندنا- والتي غالبت وعيها ووجودها تحت حجج وأقنعة الحداثة، وهي لا تعي بأبسط شروطها الفكرية والتأويلية وقدرتها الفائقة على إعادة صناعة الحياة, والاستمرار على بقاءها مستمرة بفعل ذلك التحريض الإبداعي الذي يمارسه أولئك الذين لا يؤمنون بالمألوف.

المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق